أبرز التقرير السنوي الخامس لرئاسة النيابة العامة برسم سنة 2021 مختلف الجهود المبذولة من أجل مواكبة استقلالية النيابة العامة، وتعزيز جو التعاون والتنسيق المثمر بين مكونات السلطة القضائية ووزارة العدل.
وجاء في التقرير أن رئاسة النيابة العامة تعتبر تفعيل مبدأ التعاون والتنسيق في مجال التشريع من الأولويات التي تقتضي إيلاءها أهمية خاصة، لاسيما وأن المرحلة الحالية تتسم بمراجعة مجموعة من القوانين المتصلة بميدان العدالة والتي تنظم تدخل النيابة العامة في عدة مجالات مدنية وجنائية، وذلك تنزيلا لمبدأ استقلال السلطة القضائية الذي أقره دستور المملكة لسنة 2011.
وفي هذا السياق، ذكر التقرير بأن رئاسة النيابة العامة أكدت مرارا على ضرورة إشراك مكونات السلطة القضائية في تقديم ملاحظاتها حول مختلف التعديلات المزمع إدخالها على القوانين التي تهم مجال اشتغالها من خلال إشراكها في إبداء النظر حول مقترحات ومشاريع القوانين قبل إحالتها على المسطرة التشريعية، وذلك قصد تحقيق فعالية أكبر ولتجاوز ما يطرحه واقع الممارسة القضائية من صعوبات أو إشكالات قانونية وعملية.
وبالنظر إلى الصلاحيات المهمة التي تضطلع بها وزارة العدل على مستوى المبادرة التشريعية في المجال القضائي عموما، وفي النطاق الزجري على وجه الخصوص، وباعتبار أن القانون أناط برئاسة النيابة العامة صلاحية الإشراف على تنفيذ السياسة الجنائية فقد تميزت سنة 2021، وفق التقرير السنوي الخامس، بتعزيز التعاون المثمر بين هذه الرئاسة ووزارة العدل في هذا المجال، حيث تم التوصل بعدة مشاريع قوانين من أجل إبداء وجهة نظرها فيها وتطعيمها بالملاحظات الكفيلة بتجويدها.
ومن بين مشاريع القوانين المهمة المحالة على هذه الرئاسة هناك مشروع القانون رقم 01.18 المتعلق بتغيير وتتميم قانون المسطرة الجنائية. وهو مشروع يقع في صلب اهتماماتها بالنظر لاتصاله الوثيق بمهام النيابة العامة المرتبطة بالتصدي للجريمة وحماية حقوق الأفراد والجماعات، من خلال صلاحياتها في تدبير الشكايات والمحاضر وممارسة الدعوى العمومية وتنفيذ المقررات الزجرية وممارسة طرق الطعن القضائية، وتكريس مبدأ التعاون بين مختلف الفاعلين في مجال العدالة وطنيا ودوليا.
كما توصلت رئاسة النيابة العامة بمجموعة من المشاريع الأخرى، عملت على إبداء النظر بخصوصها لا سيما مشروع القانون رقم 20.61 في شأن حماية الموظفين العموميين المبلغين على الفساد، ومشروع القانون رقم 21-19 المتعلق بتنظيم وتدبير المؤسسات السجنية، ومشروع القانون رقم 21-27 المتعلق برقمنة الإجراءات القضائية، ثم مشروع القانون رقم 21-46 المتعلق بتنظيم مهنة المفوضين القضائيين.
ولفت التقرير المذكور إلى أنه لتعزيز التعاون المثمر بين السلطة الحكومية المكلفة بالعدل ومؤسسات السلطة القضائية، والرغبة الأكيدة في تعزيز التنسيق في تدبير الشأن القضائي بما يخدم العدالة الوطنية، صدر بتاريخ 6 أبريل 2021 عن الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية ووزير العدل قرار مشترك بتحديد تأليف واختصاصات الهيئة المشتركة بشأن التنسيق في مجال الإدارة القضائية، والذي تضمن مقتضيات تراجع هيكلة الهيئة المذكورة وطرق اشتغالها وصلاحياتها.
وتنزيلا للمقتضى الدستوري الخاص بفصل السلط وتوازنها وتعاونها، أرسى القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية قنوات تواصل مؤسساتية بين واضع السياسة الجنائية (البرلمان)، والمشرف على تنفيذها (رئاسة النيابة العامة)، إذ نصت المادة 110 من القانون التنظيمي المشار إليه أعلاه على تلقي المجلس الأعلى للسلطة القضائية لتقارير حول وضعية القضاء ومنظومة العدالة، ومن ضمنها التقرير الذي يعده الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيس النيابة العامة بشأن تنفيذ السياسة الجنائية وسير النيابة العامة، قبل عرضه ومناقشته أمام لجنتي العدل والتشريع بمجلسي البرلمان.
ولا شك أن الباعث من بناء هذه العلاقة المؤسساتية، وفق الوثيقة المذكورة، هو تطوير السياسة الجنائية صياغة وتنفيذا. فالنيابة العامة، وهي تسهر على تنفيذ السياسة الجنائية تكون على بينة من مدى فعالية الإطار القانوني المعمول به في تحقيق الأهداف المرجوة منه، كما تسمح لها هذه الوضعية بالاطلاع على ما تفرزه الممارسة من صعوبات وإشكاليات.
وشدد التقرير السنوي الخامس على أهمية تضمين التقرير السنوي لحصيلة التنفيذ مدعمة بخلاصات وتوصيات، وذلك لإحاطة علم المؤسسة التشريعية بهذه النتائج قصد مناقشتها، واتخاذ ما يلزم عند إعداد ومراجعة النصوص القانونية ابتغاء لفعالية أكبر، وللانسجام بين الاختيارات التشريعية ومتطلبات الممارسة القضائية.
في هذا السياق، تميزت سنة 2021 بتفاعل كبير لمجلس النواب مع تقارير رئاسة النيابة العامة، إذ شرعت لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان بهذا المجلس بتاريخ 29 دجنبر 2020 في مناقشة التقارير المتعلقة بسنوات 2017 و2018 و2019، بحضور رئيس اللجنة وبعض النواب ومتابعة أعضاء آخرين النقاش عن بعد، أسفرت عن إعداد تقرير مكون من ثلاث محاور؛ يتعلق الأول باستقلال السلطة القضائية ومنهجية مناقشة التقارير، في حين خصص الثاني لتنفيذ السياسة الجنائية، وختم الأخير بمناقشة قضايا مختلفة.
وقد تمت إحالة هذا التقرير على رئاسة النيابة العامة بتاريخ 23 شتنبر 2021 تنفيذا للفقرة الأخيرة من المادة 110. ومن جانبها، شرعت لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان بمجلس المستشارين في المناقشة الأولى لتقرير رئاسة النيابة العامة لسنة 2020 بتاريخ 20 دجنبر 2021.
وقد تضمن تقرير اللجنة المحال على هذه الرئاسة مجموعة من التوصيات التي تتقاطع في جزء كبير منها مع التوجهات الاستراتيجية لهذه الرئاسة، والمتصلة بالحرص على التطبيق السليم للقانون، كالدعوة إلى القيام بزيارات تفقدية لأماكن الحرمان من الحرية، وتوحيد عمل النيابة العامة بشأن إدماج العقوبات طبقا للمادة 120 من القانون الجنائي، والتفاعل إيجاباً مع تقارير المجلس الأعلى للحسابات المتعلقة بالفساد المالي، وترشيد الاعتقال الاحتياطي، والاشتغال على ضمان الطابع الاستثنائي لزواج القاصر.
وعلى مستوى التفتيش القضائي، أبرز التقرير أنه رغم التعديلات الجوهرية التي عرفتها السلطة القضائية، إلا أنه ظل منظما بمقتضيات المواد من 13 إلى 21 من القانون المتعلق بالتنظيم القضائي لسنة 1974، والتي أضحت لا تتلاءم مع الوضعية الحالية للسلطة القضائية، التي أرسى معالم استقلالها كل من دستور المملكة لسنة 2011 والقانونين التنظيميين المتعلقين بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، وبالنظام الأساسي للقضاة، وكذا مقتضيات القانون رقم 33.17 المتعلق بنقل اختصاصات السلطة الحكومية المكلفة بالعدل إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيساً للنيابة العامة.
ولاحظ التقرير أن مقتضيات المواد المذكورة أعلاه من القانون المتعلق بالتنظيم القضائي كانت تخول للمفتشية العامة لوزارة العدل القيام بعدة مهام تتعلق بتفتيش القضاة والمحاكم، وإنجاز تقارير بالعمليات التي تقوم بها وتحيلها على وزير العدل من أجل اتخاذ المتعين في إطار الصلاحيات التي كانت مخولة له. إلا أن هذه الأخيرة نقلت إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية طبقا لأحكام الفصل 113 من دستور المملكة والقانون التنظيمي المتعلق بالمجلس المذكور.
كما نقلت السلطات التي كان يمارسها وزير العدل على النيابة العامة إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة.
وإذا كانت المسودة الأولية من مشروع القانون المتعلق بالمفتشية العامة للشؤون القضائية التي تم إعدادها تنزيلا لأحكام المادة 53 المشار إليها أعلاه لم تسند لرئاسة النيابة العامة صلاحيات واضحة في مادتي التفتيش والتفقد، وهو ما تمت المطالبة بتداركه خلال تقرير رئاسة النيابة العامة لسنة 2019، فإن التنسيق الفعال بين وزارة العدل ومكونات السلطة القضائية مكن من تجاوز الملاحظات المسجلة من قبل هذه الرئاسة، حيث جاء القانون رقم 38.21 المتعلق بالمفتشية العامة للشؤون القضائية مراعيا لمتطلبات التنسيق والتعاون المأمول لحسن العدالة، إذ يتم إشراك رئاسة النيابة العامة في إعداد برنامج تفتيش النيابات العامة لدى المحاكم أو عندما يتعلق بقاض من قضاتها.
وهكذا أضحى برنامج التفتيش الذي ستخضع له محاكم الدرجة الأولى والثانية يعد بتنسيق مع رئيس النيابة العامة الذي يمكنه أن يطلب إجراء تفتيش طارئ خارج البرنامج المذكور. وبعد ختم التفتيش تحال نسخة من التقرير الشامل الذي تعده بعثة التفتيش على رئاسة النيابة العامة للتنسيق في اعداد التوصيات الكفيلة بمعالجة المعيقات المرصودة، كما يتم إشعار رئاسة النيابة العامة بالتفتيش الذي يتعلق بإخلال منسوب إلى أحد قضاتها ويمكن أن يكون محل متابعة تأديبية.