ذكرى ميلاد الأميرة للاحسناء: مناسبة لإبراز انخراط سموها الموصول في قضايا المحافظة على البيئة
بقلم : حسن هرماس/و م ع/
أكادير – من قرية أيت لحسن أوعلي ، المنغرسة في صلب المغرب العميق ، والمحتمية بجبال الأطلس الشامخة ، قدم الشاب عبد الحميد العيساوي إلى أكادير متأبطا إعاقته البصرية ، ومسلحا بعزمه القوي ، وإرادته الراسخة في إعطاء البرهان الساطع على أن ذوي الاحتياجات الخاصة ، ليسوا جميعا ممن يستجدون الشفقة ، بل منهم الكثيرين ممن أبانوا عن قدرة استثنائية في هزم الإعاقة ، وإعطاء المثال على تسلق مدارج النجاح والنبوغ والعطاء .
في هذه القرية النائية ، البعيدة بحوالي خمس كيلومترات عن مدينة تنغير ، عاصمة الجهاد الذي خاضته قبائل ايت عطة بقيادة المجاهد عسو أو باسلام ، رأى عبد الحميد العيساوي النور ذات يوم من سنة 1995 ، لكن من دون أن تنعم عيناه بالرؤية الكاملة للنور الإلاهي الذي غمر الكون.
عندما خرج إلى الكون وعيناه مغمضتان بشكل لافت للانتباه ، لم تسلم اسرته من “الفتاوى” الصادرة عن الأهل والجيران والمعارف باستعمال “الوصفات العلاجية” التقليدية التي لم تنفع في شيء ، وكذلك الشأن بالنسبة لعيادة الطبيب المختص الذي أخبر العائلة ، في ما بعد ذلك ، بأن المرض الذي يعاني منه الطفل عبد الحميد خلقي (بكسر الخاء ، وتسكين اللام) ، وما عليه إلا التكيف مع فقدان نعمة البصر ، التي أصبحت مصيرا حتميا ، وواقعا لا غبار عليه.
على الرغم من ذلك ، كان عبد الحميد منذ طفولته المبكرة يظهر بعضا من مؤشرات اليقظة والرغبة في ركوب التحديات ، وهذا ما جعله يلح في طلب والديه بإلحاقه المدرسة حين بلغ سن السادسة من العمر.
في مدرسة “أيت القاضي” (الواقعة بقرية أيت القاضي)، كان من حظ الطفل عبد الحميد العيساوي أن يكون من بين تلامذة المعلم السي موحى، الذي لازال يتذكر العطف الكبير ، والتمييز الإيجابي الذي كان يستفيد منه في حجرة الدرس ، وحثه التلامذة على مساعدة زميلهم الضرير . بل كان هذا المعلم هو من ألح على والدي عبد الحميد بعرضه على طبيب اختصاصي أملا منه في إنقاذ حياة الطفل الذي كان محروما من نعمة البصر في حياته ، لكنه كان حاضرا على الدوام في قاعة الدرس ببصيرته.
كانت ملكة السمع تسعف إلى حد كبير التلميذ عبد الحميد العيساوي في تتبع الدروس واستذكارها ، حتى بعدما انتقل إلى الصف الثالث واصبح يدرس مادة الفرنسية حيث وجد في بعض زملائه ، وأساتذته ومنهم الاستاذين محمد الطالبي والسي عمر ، خير معين للمواظبة والتحصيل الدراسي إلى أن حصل على شهادة الدروس الابتدائية .
عانى التلميذ العيساوي عندما انتقل للدراسة في الثانوي الأعدادي مجموعة من المشاكل بسبب إبداء بعض الأساتذة لانزعاجهم من وضعيته التي رأوا أنها تحول دون أدائهم لمهامهم على الوجه المطلوب إزاء باقي التلامذة . لكن هذه المعاناة لم تحل دون إصراره على الاستمرار في التحصيل الدراسي بفضل السند الكبير الذي لقيه من زميله عبد الغني أشضاض ، الذي يصفه ب”صديق العمر”.
شاءت الظروف أن تنتقل أسرة عبد الحميد العيساوي سنة 2009 للعيش في مدينة أكادير ، فكان حظه أن وجد مقعدا دراسيا في الثانوية الإعدادية أحمد شوقي بحي المسيرة ، والتي شكلت تحولا حاسما في حياته الدراسية ، وحتى حياته الأسرية.
وفي هذا الصدد يحكي التلميذ عبد الحميد العيساوي أن أستاذته في مادة اللغة العربية ، نور الهدى هرماس، كانت في إحدى الحصص الدراسية تلقن التلامذة قصيدة شعرية بعنوان “مولد الهدى” ، وطلبت منهم حفظ القصيدة من أجل استظهارها في حصة قادمة ، وأعفي هو من ذلك . فأخبر أستاذته بأنه يحفظ القصيدة عن ظهر قلب ، وبإمكانه عرضها بطريقة جيدة عكس بعض زملائه التلامذة .
أثارت طريقة استظهاره للقصيدة الشعرية عواطف الاستاذة التي تأثرت مشاعرها بعمق كبير ، مما جعلها تقترح على عبد الحميد العيساوي تغيير المؤسسة التي يدرس بها ، والتوجه إلى معهد الأمير مولاي الحسن للتربية والتعليم ، المتخصص في تدريس المكفوفين بمدينة تارودانت . كما أكدت له أنها على استعداد لمآزرته وتتبع جميع الإجراءات الخاصة بانتسابه إلى هذه المؤسسة التعليمية الجديدة التي كونت أفواجا متتالية من الخريجين المحرومين من نعمة البصر.
أصبح عبد العميد العيساوي بعد سماع اقتراح أستاذته يستعجل أمره للالتحاق بتارودانت دون تردد ، لاسيما بعدما أخبرته الأستاذة بأن المؤسسة التعليمية الجديدة تعتمد نظام الداخلية الذي يضمن الأكل والشرب والمبيت ، وأنه يوجد من بين طاقم التدريس في المؤسسة صديقة حميمة لأستاذته نور الهدى ، وهي الاستاذة خديجة عتيق ، التي أبدت بدورها استعدادها حماسيا لمساعدة “الوافد الجديد” ، الذي بمجرد التحاقه بالمؤسسة اعتكف على تعلم الكتابة والقراءة بطريقة “برايل” التي استوعبها وأتقنها في وقت قياسي ، لتنفتح أمامه آفاق جديدة للتعلم والتحصيل الدراسي ، توجها بالحصول على شهادة الباكالوريا سنة 2016 بميزة مستحسن.
وسط زملائه في معهد الأمير مولاي الحسن للتربية والتعليم بتارودانت ، اصبح عبد الحميد مثل باقي التلامذة يشارك في مجموعة من الأنشطة الموازية من ضمنها العروض المسرحية . بل انخرط في تعلم فنون الحرب ابتداء من سنة 2011 بفضل زميله ، يوسف المؤذن ، الذي كان منخرطا في أحد نوادي مدينة تارودانت لرياضة ال”أيكي بيدو” تحت إشراف المدرب نجيم ، الذي أبدى حماسا كبيرا في تلقين هذه الرياضة النبيلة لشخص من ذوي الاحتياجات الخاصة.
وكما كانت الجدية والإقبال على العمل بتفان منقطع النظير في الدراسة ، كانت الجدية نفسها تطبع تعامله مع فنون الحرب التي واظب على التداريب الخاصة بها سواء خلال فترة الدراسة في تارودانت، وحتى بعد حصوله على الباكلوريا وانتقاله لمتابعة دراسته في كلية الشريعة بمدينة أيت ملول ، حيث توج هذا المسار بحصوله خلال الموسم الجامعي الماضي 2018/2019 على شهادة الإجازة في الشريعة ، وفي سنة 2018 أيضا استطاع أن يحصل على الحزام الأسود في رياضة الايكيبيدو بعد اجتيازه بتفوق لامتحان أشرف عليه الخبيران الدوليان دانيال ، و ألون فلوكي ، الشيء الذي شجعه على الرفع من سقف طموحاته التي توجها بعد ذلك بالحصول على الدرجة الأولى لما بعد الحزام الأسود .
أثناء ممارسته للأنشطة الثقافية والترفيهية الموازية للبرنامج الدراسي ، تعرف على بوشعيب دهداه ، المتخصص في رياضة المكفوفين ، وكان من نتائج هذا اللقاء أن فتح الشاب عبد الحميد العيساوي نافذة أخرى ضمن مجالات اهتماماته وهي التدريب على وظيفة منشط للمخيمات الصيفية ، معتمد من طرف وزارة الشباب والرياضة ، وهي التداريب التي ابتدأها في تارودانت تحت إشراف الإطار الوطني محمد نجم الدين ، لتليها مجموعة أخرى من الدورات التدريبية في الهرهورة، وأكادير أفضت إلى تأهله لاجتياز الامتحان الكتابي للحصول على شهادة مدرب وطني ، وهو الامتحان الذي لا زال ينتظر نتيجته.
انخراط الشاب عبد الحميد العيساوي ونجاحاته المتواصلة على ثلاث واجهات ، الدراسة والرياضة والتنشيط التربوي للمخيمات ، جعلته مثالا وقدوة بين اقرانه وأصدقاءه في بلدته تنغير وفي مدن تارودانت وأكادير وأيت ملول التي أمضى فيها جزءا من حياته ، غير أن اعتزازه الكبير بهذه الحظوة المعنوية التي اكتسبها بعرق جبينه ، لا يخفي المرارة التي يتجرعها جراء عدم حصوله لحد الآن على وظيفة تكون مورد رزق شريف بالنسبة له، خاصة وأنه ينحدر من أسرة تتطلع في يوم ما ليصبح ابنها العصامي معيلا لها.